نلبس الحرير ونأكل الكثير، فنعجز عن التفكير سألني صديق عن سر نجاحي، فقلت: لا أعرف، ولست متأكداً ما إذا كنت من الناجحين أم لا؛ لأن مفهوم النجاح نسبي، ويختلف من إنسان إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، ولكني سعيد لأنني أعيش حياة بسيطة، ومن دلائل بساطتي هذه السلوكيات والمعتقدات العشرة: - أحب الناس، وحب الناس غاية تدرك؛ فهو أسهل من إرضائهم
- لا تؤرقني مشكلات العمل (أعتبر مشكلات الشغل، شغلاً)
- آكل وألبس بوعي: آكل على ذوقي ولا ألبس على ذوق الناس
- الزواج من الشخص المناسب.
جداً.
وهذا المبدأ لا يحتمل التجربة والخطأ
- أسعى دائماً نحو أهداف نبيلة.
وهكذا تبقى كل المسائل الصغيرة، صغيرة
- أعيش بعقلي (وعلى كيف مخي) فأتحمل نتائج اختياراتي
- أحاول أداء كل عمل بطريقة صحيحة (وليس بالضرورة مثالية أو رائعة)
- أفي بالوعود مهما كانت بسيطة، وأعامل الكبير والصغير والغني والفقير والوزير والغفير بنفس المعايير
- أحاول أن أعيش دون تحيزات قدر المستطاع (وهذا أمر في غاية الصعوبة)
- أثق بقدرات الآخرين وأتوقع منهم الكثير وأكلفهم بمهمات كبيرة (وهذا أمر في غاية السهولة)
بعد مراجعة هذه المبادئ التي سردتها بسرعة، شعرت بأنها يمكن أن تتحول إلى كتاب يضم عشرة فصول بنفس الترتيب
ومما يمكن أن أقوله في الفصل الثالث، هو رفضي للمثل الشائع الذي ينصحنا بأن نأكل على ذوقنا ونلبس على ذوق الناس
وأرى أننا يجب أن نأكل ما يناسب أذواقنا وصحتنا، ونلبس ما يساعدنا على العمل والإبداع وزيادة الإنتاج وتوفير النفقات
وفي اعتقادي أن هذا تفكير ليبرالي وعملي، ولا يعبر عن فكر اشتراكي
ولذا فإنني ضد اللباس الموحد والمتشابه، وأفضل أن نرتدي في الصيف لباساً خفيفاً ونظيفاً، وفي الشتاء لباساً واقياً ودافئاً، وأن نأكل وجبات خفيفة ونظيفة صيفاً، وصحية ودافئة شتاءً
دُعيت مؤخراً إلى مطعم ياباني، وجربت الأكل بالعصاتين الخشبيتين فأعجبتني التجربة
اليابانيون والصينيون يأكلون برشاقة وسرعة، فهم يلتقطون حبيبات الأرز وقطع الأسماك الصغيرة مثل العصافير
ومن هذه التجربة العابرة اكتشفت تلك العلاقة التبادلية بين الكيفية والكمية والإنتاجية
فمن يأكل بعصاتين متقاطعتين يحتاج إلى وقت أطول ليملأ معدته
ولأن المخ يتنبه بعد عشر دقائق من دخول أول لقمة إلى المعدة، فإنه سرعان ما يقول لها كُفِّى وكَفَى؛ فعندما تشبعين يجب أن تقنعي
هكذا يتوقف الإنسان عن الأكل، ويترك في معدته مساحة للهواء وفي عقله مساحة للتفكير
الشرقيون يطبخون الأكل بقطع صغيرة، أما الغربيون فينشغلون في أثناء تناول الطعام بتقطيعه بالسكين وتناوله بالشوكة
وهم بهذا يأكلون أكثر من الشرقيين، وأقل من العرب والأفريقيين
نحن نأكل بـ"راحاتنا" وعلى راحتنا
نلتقم الأرز واللحم بأكفنا لا بأصابعنا
فسواء أكلنا المنسف أو الكبسة أو المندي أو السليق أو الجريش أو الثريد أو البرغل أو الكسكس أو المحشي، فإننا نكور الأرز مع اللحم، ونتباهى بحجم اللقمات وعددها، ونحول أيدينا إلى خلاطات ودكاكات وكباسات، وكأننا نعيش لنأكل لا نأكل لنعيش
الأكل الزائد يكلفنا أكثر مما نظن عندما نُضيف إلى التكاليف الوقت والشراء والطبخ والتخزين والتنظيف؛ والأخطر هو تكلفة التخمة والكسل والنوم في العسل وتوقف الجسم عن الحركة والعقل عن التفكير
ولا أشك في أننا سنصنع الروبوتات والطائرات والكمبيوترات ونغزو المجرات إذا غيرنا سلوكياتنا في الطبخ والنفخ، وفكرنا بالعقل قبل الأكل
عندما نلبس على ذوقنا، فسنكتفي من العطور بالبخور، ولن نشتري بدلات "بوس" الألمانية ورابطات "نينا ريتشي" الفرنسية، وقمصان "زارا" الإسبانية
فهناك علاقة تناسبية عكسية واضحة بين ارتداء البزات الرسمية وتطويق الأعناق بالرابطات والياقات الخانقة، وبين الابتكار وممارسته فعلاً
رابطات العنق ليست زياً عربياً ولا شرقياً، وهي غالية الثمن وقليلة القيمة، وهي تعبر عن توفر القروش وأحجام الكروش، أكثر من تعبيرها عن شخصية وقدرة من يرتديها ويخنق نفسه فيها
كانت في الماضي تستهويني ماركاتها وألوانها وطرق عرضها وتعليقها
وبدأت مؤخراً بتوزيع وإهداء ما لديَّ من رابطات لم أعد أرى فيها سوى التقليد والنفخة الكذابة
ويمكننا فعلاً توفير الوقت والمال والجهد إذا ما اكتفينا بارتداء ملابس عملية ولبسنا بطرق علمية تلائم ثقافتنا ووظائفنا الاجتماعية وأدوارنا الإنسانية
يؤكد السير "برانسون" صاحب مجموعة شركات "فيرجن" الراقية بأنه لم يرتدِ رابطة عنق سوى مرتين في حياته: عندما قابل الملكة لتمنحه لقب "سير"، وعندما دُعي لحضور نهائي بطولة "ويمبلدون" للتنس واضطر إلى الجلوس في المقصورة الملكية
بينما يكتفي عباقرة ومبدعون مثل "ستيف جوبز" و"مارك زكربرج" و"بل جيتس" و"ريتشارد ريد" بارتداء السراويل والقمصان القطنية، الزرقاء والرمادية، فلا يهدرون وقتهم في شرائها وتفصيلها، ولا كيها وغسيلها
ولولا أنني أمقت التحريم وأكره التعميم، لقلت بأن لبس البدلات الألمانية والقمصان الإيطالية والرابطات الفرنسية حرام؛ فهي لا تقل ضرراً وتكلفة لمن يريد أن يفكر ويعمل ويبدع، من اللقمات والخلطات الضخمة، المشبعة بالأرز واللحمة
ومن مقولاتي القديمة بهذا المعنى: "الحكيم يُشغِّل ما يحتاجه أكثر، أكثر مما يحتاجه أقل؛ يُشغِّل مخه أكثر من بطنه، وأذنيه أكثر من لسانه، وضميره أكثر من غرائزه"
بقلم: نسيم الصمادي
تعليقات
إرسال تعليق